وطنية - أطلّت بيروت على واحدة من أكثر أمسياتها الموسيقية تميّزًا وإشراقًا، بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى المؤلفة الموسيقية هبة القواس، أحيتها الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية بقيادة المايسترو الإسباني العالمي دافيد خمينيث كاريراس، في الكنيسة الإنجيلية الأرمنية الأولى في بيروت.
تجلت الأمسية كمناسبة تحمل أبعادًا حضارية، وتحتفي بالموسيقى وبموقع لبنان الثقافي، في رسالة تعكس رؤية المعهد الوطني العالي للموسيقى لتعزيز مكانته ودوره.
جمهور الموسيقى الكلاسيكية الغفير الذي ملأ مقاعد الكنيسة كان في حالة شغف وترقّب لرؤية المايسترو كاريراس، أحد أبرز الوجوه القيادية في العالم، وأحد أهم الأسماء التي تحظى باحترام واسع في الأوساط الموسيقية العالمية.
افتتحت الأمسية الرئيسة القواس بكلمة معبرة جاء فيها: "هناك أمسياتٌ لا تستمع فيها الأمة إلى الموسيقى فحسب، بل تستمع إلى نبضِها الخاص، وذاكرتِها، وإمكانياتِها الكامنة. وهذه الأمسية، هي من تلك اللحظات القليلة. لحظةٌ تُعيد تعريف علاقتنا بهذا العالم، عبر لغةٍ لا تحتاج إلى إذنٍ أو ترجمة. إسبانيا: وترٌ تاريخيٌ في الحمض النووي الموسيقي، وبتلك الروح، اسمحوا لي أن أتحدث عن بلدٍ لم يكن يوماً بعيداً عنّا، لا في الحدس، ولا في المزاج، ولا في المصير الفني: إسبانيا، ليست مجردَ حضورٍ جغرافي في أفقِنا الثقافي، بل هي اهتزازٌ تاريخي، وترٌ بعيدٌ لا يزالُ يرتجفُ في حمضِنا النوويِ الموسيقيِ. لقد عبرت أصداؤها المتوسطَ منذ قرون، مُشكِّلةً أنفاسنا الشعرية، وإيقاعاتنا، وبنيتنا العاطفية. ولذلك، عندما نتحدّث عن الدبلوماسية الثقافية بين لبنان وإسبانيا، فنحن لا نتحدّث عن مشروعٍ مؤسّسي فحسب، بل عن ذاكرةٍ مشتركة، عن موسيقى تعود إلى جذورٍ أعمق من السياسة، وأقدم من البروتوكول. الليلة، إسبانيا ليست هنا كضيف، بل كـ صدى مألوف،وطنٌ للشغف، للأناقة، للحقيقة الفنية يتجسّدُ في فنانٍ استثنائي المايسترو ديفيد خيمينيز كاريراس.لديَّ حكايةٌ شخصيةٌ مع ديفيد، حكايةٌ لم تُصنعْ من المصادفة، بل من الصدق، والتوقيت، والحقيقة الفنية الدائمة".
تابعت: "بدأت صداقتنا في عام 2006، عندما قادَ الأوركسترا وكنتُ أقفُ بجوارِ عمّه، الخالد خوسيه كاريراس. وما كانَ يمكنُ أن يكونَ لقاءً فنياً وحيداً، تحوّلَ إلى علاقةٍ إنسانيةٍ نادرةٍ ودائمة، نمتْ عبرَ السنين، والقارات، والقيمِ الفنيةِ المشتركة. فـ ديفيد وأنا نتشاركُ نفسَ عيدِ الميلاد: السابع عشر من تموز. ليسَ نفسَ العام، لكن ذاتَ الشغف. وأتطلعُ إلى اليومِ الذي سنقفُ فيه على خشبةِ المسرحِ في ذلكَ التاريخِ تحديداً، لتحتفلَ الموسيقى بـ "مصادفةٍ تحوّلت إلى صداقة".
ولكن اسمحوا لي أن أتحدثَ عنه بالدقةِ التي يستحقها. ديفيد هو قائدُ أوركسترا تشكّلَ بفضلِ عالمين، الصرامةُ المنضبطةُ والوضوحُ الكريستاليُ للمدرسةِ النمساوية، والنارُ المضيئةُ التي لا يمكنُ احتواؤها للفنِ الإسباني. لقد قادَ الأوركسترا حولَ العالمِ لعقودٍ، لكنهُ يصلُ إلى كلِّ بروفةٍ وكأنها الأولى. بتواضع، وإنصات، وتفانٍ. وعندما اتصلتُ بهِ من أجلِ لبنان، لم يسألْ لماذا، بل سألَ متى. هذا نوع نادر من الوفاءِ والإخلاص".
وأضافت القواس: "إنهُ يحملُ تقنيةَ السيدِ الخبير وقلبَ الشاعر، وأناقةَ الفنانِ الذي يقودُ دونَ أن يفرض، ويلمسُ دونَ أن يُجبر، ويُحوّلُ دونَ أن يُحدثَ ضجيجاً. وعندما وقفَ أمامَ فلهارمونيتِنا هذا الأسبوع، شاهدتُ شيئاً أنتظرُه دائماً في القائد: اللحظة التي تتنفس فيها الأوركسترا بشكلٍ مختلفٍ. الليلة، يجلبُ ديفيد كلَّ إرثِه، وكلَّ براعتِه، وكلَّ انضباطِه الروحي، ليُجريَ حواراً مع الفلهارمونية اللبنانية. وسترونَ بصمتِه الهادئةَ التي لا تُخطئ.
أمّا الفلهارمونية اللبنانية فهي ليست مجرّد أوركسترا، بل هي مقاومةٌ جمالية، وهي القدرةُ على تحويلِ ما نعيشُه إلى ما نستحقّهُ من نور. نشكرُ كلَّ موسيقيٍّ على حملِ الجمالِ كمسؤولية، وحملِ المسؤوليةِ كفرحٍ وشغف. ومع اقترابِ شهرِ كانونِ الأول، أقولُ لكم: استعدّوا لزمنٍ موسيقيٍّ سينشر الضوء في كافة أرجاء لبنانَ. حفلاتٌ شبهُ يومية، وفي مناطقَ عدّة، لأن الموسيقى، كما تعرفون، ليست حدثاً، بل حقٌ للجميع. هناك لحظاتٌ لا نُصغي فيها إلى الموسيقى بل تنصتُ الموسيقى إلينا".
اتسم حضور كاريراس على المسرح بالثقة الهادئة، وبإيماءات دقيقة ترسم خطًّا واضحًا للعازفين، فلم يكن بحاجة إلى حركة زائدة، بل كان كل تفصيل في قيادته جزءًا من البناء الموسيقي ذاته. وبين الحضور الطاغي للقائد العالمي وبين البرنامج الموسيقي الذي تميز بالمزج بين العبقرية الأوروبية والنبض الموسيقي اللبناني، كان احتفاء أيضاً بالمؤلفين اللبنانيين، كما دأبت الأوركسترا مؤخراً مع كل أمسية موسيقية أن تقدم مؤلفين لبنانيين إلى جانب عمالقة الموسيقى العالمية، وذلك بمبادرة جديدة من القواس.
افتُتحت الأمسية بـ السمفونية الرابعة لبيتهوفن، التي تُعد واحدة من أكثر أعماله أناقة وخفة ورشاقة موسيقية رغم أنها أقل شهرة من الخامسة والسابعة. فقدّمت الأوركسترا هذا العمل المعقّد بدقة عالية، مستعرضة أربع حركات متتابعة: Adagio – Allegro vivace حركة افتتاحية مشغولة على توتر هادئ ينفجر تدريجيًا في طاقة لامعة. أظهر العازفون قدرة فائقة على التحكم في الانتقالات الديناميكية، على إيقاع حركة عصا المايسترو المتحكمة بانضباط وسلاسة بالتراتبية والنغم على حد سواء.
وإلىAdagio إحدى أرقّ الصفحات التي كتبها بيتهوفن، انسابت الوتريات بنفَس غنائي طويل منح الحركة طابعًا حميميًا، Menuetto – Allegro vivaceهنا ظهر التماسك الصارم بين الأقسام المختلفة، خصوصًا في الحوارات بين الوتريات والنفخيات.
ثم Allegro ma non troppo حركة ختامية مليئة بالحيوية، نفّذتها الأوركسترا برشاقة وحيوية نادرتين.
بعد المناخ العالمي المبهر المتمثل في بيتهوفن، انتقلت الأمسية إلى روح لبنان عبر عمل المؤلف جمال أبو الحسن المخصص لكبير الموسيقى والأغنية اللبنانية زكي ناصيف. مقطوعتان حملتا لمسات لبنانية أصيلة لكن بروح أوركسترالية حديثة: "رقصة الجرار"، قطعة احتفالية تنبض بإيقاعات الفولكلور، قدّم خلالها الإيقاعيون أداءً متقدًا بالحيوية. و"فراشة وزهرة" التي تحوّلت فيها الموسيقى إلى مساحة من الحنين والجمال، حيث استطاعت الأوركسترا أن تمنح اللحن الشعبي طابعًا عالميًا فخمًا.